أرشيفات الوسوم: قصة

ثياب نظيفة

peace4syria

“هذه الثياب يجب أن تبقى نظيفة” هذه كانت آخر جملة لها قبل أن تفارق الحياة!

أكملوا الأولاد المشي، بعد أن حفروا حفرة بأيديهم وأنجزوا عملية الدفن كما اقترح الأخ الأكبر.

أمامهم مسافة ليصلوا إلى هناك، وكل شيء بدأ بعد أن أخذ تاجر الأرواح نقودهم وذَهَب والدتهم ورمى بهم هنا. هنا حيث لا شيء، تركهم أمام تحدٍ للإستمرار، وأن تحاول إسكات ثورات الجوع و تنسى مشاعر التعب كان بحد ذاته إنجاز.

عندما سأل الولد الأصغر عن سبب رميهم في العراء هكذا، لم تجد الأم كلمات لتجيب على تساؤل بسيط “تجار الأرواح يا ماما لا يعرفون الله، هم ليسوا بشر!” وهكذا أصبح إسم ذلك الرجل “تاجر الأرواح”.

مشى الصبيين تتوسطهما الأخت الوسطى، لم تكن تبكي ولا تتذمر، كانت تسجل كل حادثة يمروا بها، كانت متيقظة بالرغم من الشحوب الذي وصل حتى إلى لثة فمها!

تاجر الأرواح أخبرهم بأنه في نهاية هذا الطريق يوجد الفرج،” ليته قال الطعام أو السرير” فكر الأخ الأصغر وقد أبطئ المسير، بدى أمامه ضوء ساطع من بعيد، “هل هذا نور الشمس، أم أنه الباب للفرج الذي نبحث عنه؟ سأسرع أكثر قد أصل أسرع، لِمَ لا يستعجل أخوتي! يا سلام ما أجمل هذا المنظر، هذه أمي سأركض نحوها!”

إنتهى الصبي وأخته من الحفر، أخذوا الثياب النظيفة وألبسوها لأخيهم قبل أن يودعوه. الأخت  لازالت تسجل كل شيء وتحفظه في عقلها.

تلوح أمامهم بيوت مبعثرة، قد لا تكون بيوت، لكنها محاطة بأشخاص يلبسون زي موحد. أمسكت الفتاة بيد أخيها بقوة ونظرت نحوه لتسأله إن كان يرى ما تراه، أرادت أن تتأكد أنهما لا يزالا معًا في نفس المكان!

بدأ الإثنان يركضان، لكن الأخ الأكبر توقف فجأة وتذكر وصية والدته. بدأ بتغيير ثيابه الرثة المتسخة، وطلب من أخته أن تفعل الشيء ذاته. الآن يبدوان بمظهر جيد من الخارج، لن يرمي بهم أحد بسبب قذارة مظهرهم،  لن يعلم أحد بحقيقتهم. عاودا الركض نحو الرجال اللذين يلبسون زي موحد، بدأ الأخ الأكبر يصرخ للمساعدة، أما الفتاة لم تصرخ، فقط راقبت أخيها وحفظت كل شيء بقلبها.

توقف الجميع أمام مشهد مرعب، أطفال بثياب نظيفة ووجوه متشققة وأيدي مثل الصخر. اقترب رجل بابتسامة جميلة، لم يروا أحد يبتسم منذ مدة طويلة! حاول تهدئة الأخ الذي توقف عن الركض لكنه لم يتوقف عن الصراخ بنوبة هستيرية طالبا النجدة! اقتربت الفتاة وغمرت أخيها وهي تنظر نحو عينيه متوسلة منه أن يبقى متماسكا، سقط الولد أرضا في حالة إغماء من الإجهاد.

جاء المترجم، وتحدثت الفتاة أخيرا “أمي قالت نحن لاجئون ….هي ليست هنا، ذهبت لتخبر الله عن ما فعله بنا تجار الأرواح وتجار الأوطان!”

*الصورة مأخوذة من الإنترنت، والقصة حقيقية بتصرف”

فوضى منظّمة


المشهد الحالي…

في ملعب كرة القدم ويبدو أنها مباراة مهمة جدًا بين فريقين مشهورين. تمتلئ المدرجات بالجماهير المشجعة، وبالطبع يجلس كل مشجع في القسم الخاص بالفريق الذي جاء من أجله. تعلوا الأصوات والأغاني، يستعمل البعض الزمار لخلق ضجة بنغمة مميزة، والبعض الآخر يستخدم مكبرات الصوت ليقود مجموعة من المشجعين لترديد أغانٍ تراثية أو حماسية وهكذا.

لكن هناك شيء يقوم به جمهور المشجعين الغفير، دون اتفاق مسبق ودون تنظيم أوتدريب، وهو حركة الموجة.

هناك دائمًا مجموعة تبدأ بهذه الموجة البشرية، تقف المجموعة الأولى بينما تعلوا أصواتهم مع علوِّ أياديهم. وبينما هم في خضم هذه الحركة التي تقلب كيان المدرج في منطقتهم، يراقب الأشخاص الذين يجلسون بجانب مربعهم تلك الموجة البشرية. تدق قلوبهم بحماس، فهم لا يعلمون ما هو الشعور بأن تكون جزءً من الموجة، أو كم ستبقى أو كيف ستبدأ. لكنهم يراقبون ويتعلمون من ما يشاهدون ويسمعون.

وبينما تنخفض أيادي المشجعين المشتركين في الموجة الأولى، تنخفض معها أصواتهم، وحماسهم وتبدأ الأمور بالعودة إلى مجراها.

تنتقل الموجة إلى المربع التالي، ويراقبون بدورهم المشهد. بدأت الموجة البشرية تتشكل عند المجموعة الجديدة، هم يعلمون جيدًا مالذي يحصل مع تلك المجموعة، ومالذي يمر به المشاركون بتلك الموجة، وكم ستستغرق من الوقت. هم ببساطة عاشوا تلك التجربة!

تمر الموجة بسلاسة محبوكة دون تفكير، لذا فهي تعبر بأسرع وقت ممكن. لا تلبث أن تبدأ وتعلو، حتى تنخفض من جديد. تنطلق كالعدوى لكنها عدوى جميلة، يشترك بها الجميع.

يا ترى، لو كانت تلك الموجة متفق عليها مسبقًا، هل كان المشجعون سيبقونها وقتًا أطول، أم أن جمالها هو بعفويتها وسرعة وصولها للجميع!؟

تلك القشعريرة اللذيذة المرتبطة بوجودك ضمن مجموعة لا يجمعك بهم غير حماسك وعشقك لشيء يجمعكم في ذلك الوقت، وذلك المكان. موجة تغير كيان المدرج ولو لوقت قصير، لكنها تُسجَّلُ في أحداث ذلك اليوم، وأنت جزء منها.

إرادة

قصة من التراث السوري….

يحكى أنه كان هناك رجلًا  يلبس عباءة، وكان يمشي في الطريق متجهًا نحو الحقل.

قالت الريح للشمس: أتحداكِ بأنني سأجعله ينزع عباءته بحركة مني.

ردت الشمس: أتحداكِ بأنني سأربح الرهان.

وبما أنها كانت مبادرة الريح، فقد بدأت بالهبوب على الرجل. وكلما زادت من قوتها، كلما زاد تمسّكه بعباءته ومقاومته للريح. وهبت أقوى وأقوى، وزاد عناده وتصميمه وضمَّ العباءة أكثر إلى جسده محاولًا أن يتابع سيره. وبعد مرور وقت، استسلمت الريح!

جاء وقت الشمس التي أشرقت بإبتسامة، وعندها شعر الرجل بالدفئ، وخلع عباءته ووضعها على ذراعه وهو يكمل طريقه مبتسمًا.

قالت الشمس للريح: هل رأيتِ، لا يمكن تحقيق شيء بالعنف والتهديد. أعطِ للحياة الإرادة الكاملة في الإختيارات وستستمر بانسجام تام.

زيت وزعتر

بدأ الجميع يعترض وتتعالى الأصوات، هذه مؤامرة!

يجمع الأبناء أحذية قديمة وصناديق وأوراق مرمية هنا وهناك، يضعوها بجانب بعضها ليصنعوا منها مدفئة، ويحرقوها لتبقيهم بعيدًا عن التجمد.

تجمع غلّة الشهر وتذهب إلى السوق، ستشتري بنطال للشتاء، البنطال أصبح ب ٦٠٠٠ ليرة سورية. تجوب الأسواق آملة بأن تجد سعرًا أفضل، لكن، وكما قال البائع، هذا هو سعر السوق. هل تشتري؟ هل سيكتفون بالزيت والزعتر لتوفر ثمن البنطال؟ الشتاء يأكل أجسادهم، عليها أن تشتري شيئًا دافئًا.

لا يزال النقاش الحامي الوطيس يدور حول أسباب هذه المؤامرة، هذا النقاش مهم جدًا ولن يرتاح المهاجرون حتى يفضحوا الأسباب!

يجمع أهل المخيم المسامير ليثبتوا خيمهم جيدًا، وصلت أصداء العاصفة التي ستضرب الحدود، يُقال بأنها ستجمد كل شيء ولا أحد يعلم إن كانت المعونات ستصل، أم أنهم سيتجمدون من البرد! الأمم المتحدة أعلنت عن عجزها عن دعم اللاجئين السوريين في المخيمات، مالحل؟

“الخيار الأفضل هو أن لا نصنع حلويات العيد، الأسعار تحرقنا، وبالنهاية سنحتفل وحدنا، من ستأتيه الشجاعة على التجول والزيارة في مثل هذه الظروف؟ هل تعلم، لدي الحل… نصنع كعكة عيد واحدة ونضعها عند الشجرة وننام بجانبها، ثم نوزعها على الأطفال.” هكذا فكرت وهي تحضّر للعيد.

أصبح عدد الشباب الذين قضوا في الحرب كبير، لم نعد نرى إلا اللون الأسود في وجوه المارة. هنا تكثر الأرامل والصبايا والأطفال الذين يحاولون تذكر لعبة الغميضة. هنا لاشيء يحدث!

الأكيد أن لجنة التحكيم والعاملين على البرنامج، والممولين والمشاهدين، والسماء والأرض، اتفقوا أن لا يرفع هذا الفائز العلم. هذه مؤامرة، وعلينا أن نجد لها حل فوري، وفتوة تليق بها، وتصريح أمني وإجتماعي وسياسي! كيف يفرح الناس ويهللوا سوريا… سوريا…. سوريا… ولم يُرفع علم! كيف يفرح هذا الفائز الذي مثّل وطنه بأجمل صورة!

هذه هي قضية الموسم الآن بعد أن حللنا جميع قضايانا، وأعدنا بناء السارية التي سيُرفع عليها العلم. لكن يبقى السؤال: هل يبقى أحد ليرفع العلم!؟

حدث في عام

image

وفي عام 1979م، حدثت الثورة الإسلامية الإيرانية، ومن خلالها تمّ الانقلاب على حكم الشاه، وفرض أحكام الشريعة الإسلامية كما أرادتها الثورة. جميعنا يعلم الانفتاح الاجتماعي الذي كانت تعيشه إيران في تلك الفترة، حتى أنك تعتقد وكأنك في إحدى الدول الأوروبية. لفتت نظري قصةُ سيدة كانت في طريقها إلى العمل بعد أن حدثت الثورة، وفوجئت برجل يلبس الجلابية القصيرة، وعلى وجهه ملامح الغضب والتعصب، ويحمل بيده عصاة طويلة. بدأ هذا الرجل بالركض باتجاه المرأة وضربها وهو يأمرها بالعودة إلى المنزل والتستر! لم تكن تلبس ثيابًا فاضحة، لكنه أراد منها العودة ولبس العباءة السوداء وتغطية رأسها!

بالنسبة للشعب الذي لم يواجه في حياته تطرفا دينيا، كان من الصعب التأقلم مع هذا التغيير المفاجئ، والذي حصل بين يوم وليلة تحت غطاء الثورة الهوجاء. بدأت تلك الثورة قمعها أولًا ضد النساء، وأتخيّل أن جميع أولئك النساء العاملات قبعن في منازلهن في ذلك اليوم يتأملن الواقع الجديد، وكيف سيتغير كل شيء في يوم واحد إلى المجهول! أفكرُ أنهن جميعًا قد جلسن كلٍّ في منزلها ويفكرن، هل هذا كابوس؟!

تم اعتقال العديد من النساء اللواتي رفضن الخضوع والخنوع في بادئ الأمر، وتحديدًا في ذلك اليوم، تمّ زجّ الكثير من المثقفين رجالاً ونساءً في السجن وتعذيبهم.

في عام 1979م، دخلت أفغانستان في حربٍ أهلية مريرة، وخلال قراءتي وبحثي، اكتشفت معلومات لم أكن أعلمها عن أفغانستان. فقد كانت من الدول المنفتحة المثقفة المتعلمة، والتي تحتضن الفن والتاريخ! بدأت سيطرة الفصائل المتطرفة عليها بحجة تحرير البلاد من الاحتلال السوفيتي، وقد حدث ذلك فعلاً، لكن الانقلاب العسكري الداخلي الذي حدث، مهّد لظهور المتشددين. رأيتُ صورةً لسيداتٍ أفغانيات في الفترة ما قبل الحرب، وكنَّ يلبسنَ ثيابًا عصرية، ويظهرن بهيئة المثقفات بحملهن الكتب وهن في بهو الجامعة وسط نقاش مع مجموعة من الشباب. ثم انتقلتُ بالسنين إلى اليوم الذي فرض به ”طالبان“ على النساء البقاء بالمنزل، وعدم التبرج، وعدم القراءة، وعدم الخروج دون غطاءٍ أزرقٍ سميك يغطيهن من رأسهن حتى أخمص أقدامهن، مع فتحة صغيرة للتنفس والرؤية! ولا أنسى اليوم الذي جرَّ به ”طالبان“ سيدةً اتهموها بالسفور إلى ملعب كالدابة، وتم إطلاق الرصاص عليها وعلى مرأى من الجميع.

أيضًا في فترة استلام المتشددين للحكم وبدء فترة الخراب، تم اعتقال العديد من المثقفين النساء والرجال وإعدامهم.

بعد عام 1979م، بدأت حركة الانغلاق في مصر، وكلّنا نعلم تاريخ مصر الفني والثقافي والاجتماعي، والدور الذي لعبته نساء مصر على مرّ التاريخ. لم يحدث التغيير بشكل مفاجئ في مصر كما حدث في إيران، ولا بالبشاعة التي حدث فيها في أفغانستان، لكنه حدث ببطئ وخبث، لدرجة أنه انتشر في المجتمع بطريقة انتشار المرض العضال.

بالطبع يمكنكم أن تلاحظوا التغيير الذي حدث للمرأة في مصر.. طريقة لبسها وانخراطها في المجال الثقافي والسياسي، وحريتها في التعبير! بدأ النقاب ينتشر بشكل واضح بين النساء، وازدادت حالات التكفير والتهجم على كل من لا تتبع طريقة المتشددين في اللباس.

في نفس الفترة تقريبًا، بدأ التحرك المتشدد يظهر ﻓﻲ كل من سوريا والعراق. في سوريا لم يكتب لهم النصر، بسبب ما قام به النظام السوري في تلك الفترة بما يُعرف بأحداث حماة. لكن من خلال البحث، وجدت أنه من تلك الفترة وبعد، ازدادت عدد المدارس والجمعيات المتشددة في سوريا وانتشر الفكر السلفي بين الأفراد. بدأنا نرى تغييرًا سلبيًا واضحًا في الحركة الثقافية والفنية، وتزامنت مع إقفال الدولة للكثير من دور السينما والجمعيات الثقافية. بدأت الجماعات المتزمتة بالتوسع والتغلل بصمتٍ بين أفراد المجتمع، وقد تم اختيار أسلوب السيطرة على حرية المرأة وانفتاحها أولًا، ثم الانتشار لباقي أعضاء المجتمع.

وجدتُ أن الدول التي ذكرتها تعاني حاليًا من دمار وانحدار ثقافي وفكري واجتماعي، بأشكال مختلفة وبنسب متفاوتة! لم يعد هناك استقرار فيها، وقد سيطرت الجماعات المتشددة الإسلامية عليها بطريقة أو بأخرى. واللافت للنظر، استهداف جميع هذه الحركات والأحزاب للمرأة أولاً! بدايةً عن طريق العنف والقوة لكسرِ عزّتها وكرامتها، حيث يعلم هؤلاء أنهم سيخسرون في النقاش العقلي والمنطقي! وبدأت هذه الحركات بتحجيم المرأة، أولاً بكسرها والتحكم بمظهرها، وحركتها وعلمها وثقافتها. وبعد الوصول إلى هدفهم بجعل المرأة تؤمن بضعفها وبأنها ”ضلع قاصر“، بدأوا بالعمل على تجنيدها ضد النساء الأخريات! وبهذا نلاحظ أن معظم الدعاة المتشددين والسلفيين ضد حرية المرأة هم من النساء!

إذًا، هذا ما يتم ضمن عملية ”تجنيد التخلف“! تبدأ أولًا بكسر كرامة المرأة، وجعلها تشعر بالضعف والذل، وزرع الأفكار البالية في عقلها، وتحويلها إلى سلعة للمتعة الجنسية ورميها في عوز متقع.

ثمّ ينتقلون إلى المرحلة الثانية، وتبدأ بملئ رأسها بالأفكار التكفيرية والمتشدّدة، وبهذا أقصد تكفير الآخر الذي ينتمي إلى نفس الدين والطائفة. ثم تنطلق المرحلة الأخيرة، وهي شحذهن وإفلاتهن على المثقفات والمتحررات.

رأيتُ يومًا على موقع، امرأتين متشددتين -عرفتُ هذا من لبسهن- يصرخان بصوت عالٍ، وينهالان بالضرب على امرأةٍ لم تبدُ لي سافرة، أو متعريةً أو كافرة كما كانتا ينعتانها! لقد كان الضربُ مبرحًا، ولم يتدخل أحد من المجتمع لإيقافهن. انتهى الأمر بالسيدة في المستشفى، ثم توفّت بسبب نزيف في الدماغ على إثر ضربات مبرحة باستخدام الكعب العالي لأحذية نسائية!

الحركات والتنظيمات والثورات المتشدّدة لا تستنزف البلاد في حروب مدمّرة فقط، بل أيضًا توقعها في جهلٍ مظلم من خلال السيطرة على المرأة، وتحويلها إلى عضو جاهلٍ غير فعّال. وهي نفسها المرأة التي ستنجب وتربي أبناء المستقبل، الذي سيبقى مظلمًا، لطالما أحد أهم أعمدته يعاني من التعفن الفكري والنفسي والثقافي.

حدث…. ولا يزال يحدث.

الصورة في أفغانستان عام 1950*image copyright from the web

هكذا تقع الأوراق

لم أشعر بالخريف منذ سنوات طويلة، وهذه السنة، وبعد إنتقالي إلى كندا،  أعيشه في بلاد تحتفل بهذا الفصل الجذّاب بطريقة ساحرة.

جمال الطبيعة في كندا من أروع الأمور التي يمكن أن تشاهدها وتستمتع بها بغض النظر عن عمرك أو جنسك أو جنسيتك الأصلية، وبالتأكيد بغض النظر عن وضعك المادي! هنا، تقدم الطبيعة عرض خاص مع كل فصل من فصول السنة.

الخريف في تورنتو وضواحيها من أروع الفصول، تشعر بالعشق الذي تكنه الأشجار للأرض، حيث تتغير الألوان بتناغم طبيعي ساحر، كأن ريشة تمر على الأوراق وتلونها بألوان خريفية دافئة.

على الطريق، أرى الأوراق تلبس حُللًا جديدة وكأنها تختار أن تتزين قبل أن تتمازج مع الأرض. الأصفر والبرتقالي والناري المتوهج، هذه الإختيارات المتوفرة بالإضافة إلى الأخضر التي تلتزم به بعض الأوراق. لكن مهما كان اللون الذي تختاره، جميع الأوراق ستسقط وتلتحم مع الأرض تاركة الأشجار عارية لتواجه الصقيع الآتي لا محال.

لكل شيء تحت السماء وقت، ولكل كائن على الأرض وقت، صحيح أننا تعودنا على فكرة الأبدية في بلدي الأم، لكن الطبيعة تُعلمنا أنه مهما تلوّنت وتغيرت هيئة الكائنات، سيأتي يوم وتندمج فيه مع الأرض وتصبح جزء منها، لا شيء يدوم إلى الأبد ولا سلطة تدوم إلى الأبد إلا الخالق!

هذه صور أخذتها لجمال الخريف، قراءة ومشاهدة ممتعة أتمناها لكم.

fall1fall5fall2

في عمر الزهور

 

صبية في عُمر الزهور سمعت هذا المصطلح كثيراً لكنني لم أشعر بمعناه إلا عندما سمعت قصة هذه الصبية 

جلست أحتسي القهوة مع أمي و جارتنا التي رأيتها فقط مرة من قبل ولكني أحببت إبتسامتها ورقتها، هي من الأشخاص الذين تشعر أنك رأيتهم من قبل. تكلمنا عن أمور العمل والحياة والأطفال، والإخوة الأصغر سناً أو كما نطلق عليهم بالعامية آخر العنقود”، وكيف أنهم يحظون دائماً بتربية مختلفة عن باقي إخوتهم، وكيف أن الدلال كله يكون لهم، وقالت الجارة: آه نعم الصغير عندي كلشمدلل أي شيء يطلبه يكون له. ضحكنا أنا وأمي و قلت: آه من الإخوة الصغار وآه من أهلنا الذين مع مرور الوقت نسوا كم كانوا صارمين معنا، طبعاً ضحكت أمي وهزت برأسها بينما أطبع قبلة على خدها.

أما الجارة فأضافت: أختي الصغيرة كانت هكذا مدللة عند أمي حتى أنها كانت تستعمل مفردات لم يكن مسموح لأي منا أن يلفظها أمام الأهل عندما كنا صغاراً، أختي كانت صبية سمراء عينين سود جميلة الوجه بإبتسامة تذوب القلوب.

قلت: كانت!

بنظرة تائهة مسافرة إلى مكان بعيد قالت الجارة: نعم كانت، الله يرحمها.

عمَّ الصمت في الغرفة، لم أدرك أنني كنت أتفرس في وجهها، وقد بدأ الدمع يملئ عيني. قالتكان هذا منذ سنة تقريباً إتصلت بي أمي من العراق بعد منتصف الليل، تشكي أن أختي الصغرى، التي كانت قد تخرجت من الجامعة منذ شهر تقريباً، لم تكن على مايرام وأنها لاتدري ماذا تفعل. قلت لأمي أطلبي لها الطبيب… بعد ساعتين تقريباً، إتصلت أمي ثانية تقول أنهم أخذوا أختي إلى العناية المركزة ودخلت في غيبوبة! لم أدري ما أفعل غير أن أدعي إلى ربى، هذا كل ما في يدي وأنا هنا بعيدة عن الوطن… بعد ساعات إتصل أحد أقربائنا ليقول أن أختي قد توفت!

أحسست أن الزمن توقف هنا، حتى القهوة توقفت في حلقي، لم يعد شىء يتحرك حولي حتى الدم الذى يجري في عروقي توقف، فقط دموعي التي ملئت عيني ووجهي كانت تذرف. نظرت إلى الجارة أبحث عن تفسير في عينيها ووجهها الذي شحب فجأة!

فكرت.. حسب القصة لم تقتل، هل كانت مريضة، هل إنفجر شىء حولها؟ مالذي يجعل فتاة في عمر الزهور تدخل في غيبوبة ثم تفارق الحياة في أقل من ليلة!

قالت: لقد توقف قلبها فجأة

قلت: كيف!.. كيف يتوقف قلب فتاة بهذا العمر فجأة؟؟

قالت: تعرفين الظروف في العراق، كان الجنود يدخلون البيوت للتفتيش في منطقتنا فجأة بين الحين و الآخر وأختي كانت فتاة حساسة. وقد تدهور وضعها بعد أن قتل إبن خالتي وهي كانت متعلقة به، وكل هذه الأسباب جعلتها تعيش بحالة حزن.

توقف الزمن تماماً، حتى أنني لم أعد أشعر بدقات قلبي، هذه القصص نراها في التلفاز فقط.

فكرت أولاً بهذه الجارة التي لاتفارق البسمة اللطيفة وجهه،ا كم تخفي من الأحزان والمآسي خلفها! وفكرت كم كان صعبا عليها أن تسمع خبرآً كهذا وليس بيدها أية حيلة. فكرت بالأم التي كان واضحاً أنها كانت وحيدة حتى تتصل بإبنتها التي تعيش بعيداً هنا، وهي تعلم أنها لن تفعل شيء، لكن صوتها قد يعزيها ويشعرها أنها ليست وحيدة.

أما فتاة الزهور، آه كم هو محزن ما مرت به حتى وصلت لهذه المرحلة. حتى استسلمت وقرر قلبها التوقف. قد يكون قريبها هو السبب الوحيد الذي يبقي قلبها ينبض حتى لو لم يكن بداعي العشق! هناك علاقات أقوى من مشاعر العشق. والآن وقد فارق الحياة عنوة، لم يعد يريد هذا القلب أن ينبض.

ياترى كم زهرة تموت كل يوم… كم زهرة تقهر كل يوم في بلادنا… كم يكفي من الحزن لتفارق الزهور الحياة، وكم تحتاج من الشجاعة لتبقى وتتابع المسير!

*إلى جارتنا التي لا تزال البسمة لا تفارق وجهها. إلى كل زهرة لازالت متمسكة بالحياة وتعيش على الأمل!